حين وقف الوفاء على باب العدالة
مقدمة القصة
في زمنٍ أصبحت فيه الوعود تُقال ولا تُوفى،
والعلاقات تُبنى على المصلحة لا على الوفاء،
قد تظنّ أن الصدق مات، وأن العهد أصبح من تراث الحكايات،
لكن التاريخ يخبرنا بعكس ذلك...
قصّة اليوم ليست من نسج الخيال،
بل مشهد واقعي حدث في زمن العدالة النقية،
زمن كان فيه للوفاء ثمن… وللكلمة قيمة… وللعفو معنى.
اقرأ هذا الموقف النادر،
الذي جمع بين قاتل وصاحب دم… وضمين لا يعرف من يضمن…
ليصنعوا معًا أعظم مشهد عن الإنسانية،
مشهدًا قد تدمع له عينك، لا حزنًا… بل شوقًا لعالم يشبهه.
القصة
اللقاء أمام عمر بن الخطاب
دخل ثلاثة رجال على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، يقتادون شابًا مكبّلاً، تتطاير من أعينهم نار الغضب.
قالوا بصوت واحد:
ـ يا أمير المؤمنين، نطلب القصاص، فهذا الرجل قتل والدنا.
سأله عمر بهدوء: ـ أحقٌ ما يقولون؟ ولمَ قتلت والدهم؟
ردّ الشاب مطأطئ الرأس: ـ كنت راعيًا للإبل، وكانت إحدى جمالاتي تأكل من شجرٍ في أرض والدهم، فجاء وضرب الجمل بحجر حتى سقط ميتًا. فغلبني الغضب، وأخذت الحجر نفسه وضربته، فمات.
قال عمر بن الخطاب: ـ إذاً، وجب عليك الحد.
طلب التأجيل والضمان
رفع الشاب رأسه وقال: ـ يا أمير المؤمنين، لي رجاء: أمهلني ثلاثة أيام، فقد مات والدي وترك لي ولأخي الصغير كنزًا، لا يعلم مكانه سواي. إن قُتلت قبل أن أعود، ضاع الكنز وضاع أخي.
سأله عمر: ـ ومن يضمنك حتى تعود؟
نظر الشاب في وجوه الحاضرين، حتى أشار إلى رجل في الزاوية وقال: ـ هذا الرجل يضمنني.
وكان ذاك الرجل هو الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري.
قال له عمر متعجبًا:
ـ يا أبا ذر، أتضمنه وأنت لا تعرفه؟
فقال: نعم، يا أمير المؤمنين.
قال عمر: ـ إن هرب، أُقيم عليك الحد مكانه. فأجابه أبو ذر بثقة: ـ أنا أضمنه.
العودة والوفاء
مضت الأيام... الأول، فالثاني، حتى جاء اليوم الثالث، وقلوب الناس معلّقة، والعيون تترقّب.
وقبل غروب الشمس بقليل، دخل الشاب المدينة وهو يلهث، وقد أنهكه التعب، حتى وقف أمام عمر وقال:
ـ سلّمت الكنز وأخي إلى أخوالي… وها أنا ذا بين يديك، لتُقيم عليّ الحد.
سأله عمر مذهولاً: ـ ما الذي أعادك؟ كان يمكنك أن تهرب! فقال الشاب: ـ خشيت أن يُقال: ذهب الوفاء من الناس.
ثم التفت عمر إلى أبي ذر وسأله: ـ وأنت، لماذا ضمنت رجلًا لا تعرفه؟ قال أبو ذر: ـ خشيت أن يُقال: ذهب الخير من الناس.
مفاجأة العفو
اقترب أبناء القتيل، وعيونهم مغرورقة بالدموع، وقالوا: ـ يا أمير المؤمنين، عفونا عنه.
سألهم عمر بتعجب: ـ ولماذا؟ فقالوا: ـ نخشى أن يُقال: ذهب العفو من الناس.
خاتمة القصة
كم نحتاج اليوم إلى مشهد مثل هذا…
شاب يعود ليُقتل بإرادته، لأن الوفاء عنده أغلى من الحياة،
ورجل يضمن غريبًا لأنه يؤمن أن الخير لا يزال يسكن القلوب،
وأبناء قتيل يختارون العفو، لأن الرحمة أرقى من الانتقام…
لقد كان هذا الموقف لوحة من نور، جمع الصدق والوفاء والعهد والعفو، مشهدٌ نادرٌ في زمانٍ صارت فيه الوعود تُنسى، والضمان مجرد توقيع، والعفو يُعتبر ضعفًا، والخير… يُشّك فيه!
لكن هذه القصة تهمس لنا: الخير لا يموت… فقط يحتاج من يُحييه.
فليكن فينا من يقول: "لم يذهب الوفاء من الناس" "لم يذهب الخير من الناس" "لم يذهب العفو من الناس"
ما دمنا نؤمن بهذه القيم… فلا يزال في الأرض نورٌ يُضيء القلوب.
ليست هناك تعليقات: